من يوميات طالب في الغربة :(18) :الحياة تحت الحصار !
2025-02-04 13:01:15* بقلم : محمد ولد محمد الأمين (العميد)
كان علي التعايش إذن مع كل تلك المشاكل والتي بالتأكيد كان لها الأثر الكبير على مستقبلي الدراسي ولكنها لم تكن هي الوحيدة المؤثرة فيه حيث ما إن بدأت الدراسة فعليا حتى ظهرت مشاكل ونواقص كثيرة لدي تتعلق بها ترى ما هي ؟
عشت في سنتي الأولى بالغربة مشاكل كثيرة أخرى بعد التسجيل في الدراسة منها ما يتعلق بنفاد الفلوس التي كانت معي والتي استطعت اقتراضها من بعض الزملاء الطيبين هنالك وتجلت هذه العينة من المشاكل في معاناة كثيرة من أهم صنوفها عجزي عن توفير الحاجيات الضرورية "الطعام والشراب رغم كونهما بالمجان50 أوقية للوجبة في المطعم أيام الدراسة"وكذا لوزام الدراسة،
كما اضطررت للتخلي عن الإفطار الصباحي "القهوة والخبز100 أوقية"لمدة شهرين.وفي العطلة الأسبوعية كنت اضطر للإقامة مع زملائي "سفر15كلم"ليقوموا بضيافتي بسبب غلق المطعم الجامعي أثناءها.
ناهيك طبعا عن عدم استطاعتي شراء أبسط الثياب التي تتناسب مع موجة البرد القارس وموضة شباب تلك البلاد "بقيت شهرين أرتدي ثوبا وحيدا صيفيا مع بعض الثياب المستعملة أهداها لي بعض الأصدقاء الطيبين وغالبيتها لم تكن على مقاس جسمي".الطلبة هنا يبدلون لباسهم في الأسبوع مرتين"وطبعا غني عن القول إن الأدوات الدراسية لم يخطر شراؤها لي على بال رغم كونها ضرورية وكثيرة ومكلفة حيث تشمل الكتب والمعاجم والمساطر..."كتبت الدروس كلها مدة شهرين في دفترين كبيرين رغم كثرة المواد(يبلغ عددها15 مادة).
لقد كان لزاما على أن أتعامل مع هذا الواقع حسب الإمكانيات المادية المنعدمة لدي ، وكم كان يحز في نفسي أن أرى الطلبة في المعهد ومن جميع الجنسيات"بينها دول أضعف اقتصادا كثيرا من بلادنا جنوب الصحراء وشمالها ومن العالم الآخر"إفريقيا خصوصا يتنعمون بكل شيئ وأنا لا أجد ماأسد به رمقي"لا أحسدهم لكنني ألوم المسؤولين عن المنحة في بلدي عن التقصير في توزيع المنحة كل شهر .
كنت في بعض أوقات تجمع الطلبة للإفطار الصباحي أو منتصف النهار اضطر إلى الذهاب إلى قاعة المطالعة وقت الافطار الصباحي والغداء) كي لا يكتشفوا أنني تنقصني مقومات الحياة الأساسية "الغذاء"وكنت أتجنب مخالطة الطلبة من زملائي بالمعهد طيلة تلك الأوقات دفعا للحرج.زد على ذلك أن الخصاصة بلغت بي مبلغا لا يصدق" كنت أشرب الماء بكثرة وقت الإفطار منتصف النهار وفي الصباح "بدلا عن الغذاء" خاصة إذا كانت لدي حصة منتصف النهار.
ومن المواقف الصعبة الأخرى في هذا المنوال أنني كنت اضطر للسير راجلا ولمسافات طويلة إذا ما فاتتني حافلة الطلبة كي لا أضطر لتعريض سمعة البلد للخطر عندما يمسك بي مراقبو خطوط النقل من حافلات عمومية وقطارات وكثيرا أيضا ما كنت اضطر لتضييع بعض الحصة المسائية "اتركها على السبورة إن كان الدرس تطبيقيا وكتبت منه بيانات وإرشادات عليها السبورة وذلك كي لا تفوتني حافلة الطلبة أو وجبة العشاء"هي المصدر الغذائي الرئيسي المضمون بالنسبة لي).
هكذا إذن بسبب تلك الصورة القاتمة صرت غير قادرعلى النوم في ليالي الشتاء القارس الطويلة ،فمثلا كنت أعيش في ذلك الحي الجامعي وحيدا معزولا عن كل الموريتانيين طيلة أيام الأسبوع ولم يكن المعهد به موريتانيون في مستويات السنة الأولى والثانية ، في حين كانت ظروف المعيشة تحت الحصار واقعا صعبا ويحار العقل في التفكير فيه، أما الأهل فم تصل منهم رسالة إلا بعد أشهر !!
بقيت إذن أعاني تلك العذابات المستمرة على شكل جرعات يومية ومما زاد في حرقة لهيبها ما عشته في الواقع الدراسي من صعوبات كثيرة اتضح لي من خلالها أن عملية التعليم في بلادنا مازالت بعيدة جدا عن مسايرة العصرعلى وبعيدة عن رقي المنهاج والبرامج التونسية .
ولكن انطلاقا من أن" الاختراع وليد الحاجة " فقد تحديت كل تلك الصعاب وكنت كلما ادلهم خطب جديد في وجهي أسليها قائلا" الرجاله فغمادها" ولابد من أتخرج من هذه البلاد وأمثل وطني تمثيلا مشرفا وأعود مرفوع الرأس بشهادة أخدم بها بلادي العزيزة واستشهد بقول الشاعر :
بلادي وان جارت علي عزيزة وأهلي وان ضنوا على كرام
وتواصلت تلك الأيام السود تترىلغاية26 دجمبر1996(فترة شهرين ونصف) ثم وزعت المنحة واختفت المشاكل المعيشية مؤقتا لتبدأ المشاكل الدراسية في الظهور وبحدة ترى ما هي؟...
ملاحظة : هذه المذكرات نشرت جامعة جورج تاون الامريكية حلقات منها في كتاب مترجم بالانجليزية يدرس في أكثر من 250 جامعة ومعهدا حول العالم .
- 0
- 0